مستقبل العرب- بين الاستبداد، الفوضى، والديمقراطية المنشودة.

المؤلف: د. منصف المرزوقي09.15.2025
مستقبل العرب- بين الاستبداد، الفوضى، والديمقراطية المنشودة.

عندما نتفكر في مستقبل العالم العربي، وبالتحديد في منتصف هذا القرن، تتبلور في أذهاننا ثلاثة تصورات رئيسية:

  • أولًا: استمرار قبضة الاستبداد، سواء كان ذا طابع علماني أو ديني، مع تجديد آلياته وتطويعها، واستغلال مُحكم لتقنيات التضليل والمراقبة. هذا السيناريو ينذر باستمرار الأوضاع المأساوية التي تعيشها الشعوب والدول العربية، وترسيخ واقع مُحبِط.
  • ثانيًا: تصاعد وتيرة الصراعات الحادة بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، مما قد يقود إلى حالة من الفوضى العارمة. هذه الفوضى قد تتفاقم لتصل إلى مستوى الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يحدث في مناطق مثل السودان والصومال كإشارات تحذيرية.
  • ثالثًا: تكلل المشروع الديمقراطي بالنجاح، وترسيخ الأساسات وديمومتها، وتحقيق التطور المنشود. هذا السيناريو يمثل بصيص أمل نحو مستقبل أفضل.

قد يتساءل البعض عن موقع الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات، التي تبدو وكأنها تتجاهل وجوده. فالواقع يشير إلى أن الإسلام السياسي اليوم يتبوأ مكانة بارزة، سواء في سوريا أو غزة، مع استعداده للعودة إلى الساحة في العديد من البلدان بعد الإخفاق الذريع للثورات المضادة.

أرى أن جزءًا من هذا التيار سينزلق مجددًا إلى جولة جديدة من الاستبداد غير المجدية، حيث سيواجه مقاومة شرسة من القوى العلمانية في المجتمع. في المقابل، سينخرط جزء آخر في المشروع الديمقراطي، وسيسعى لإثرائه وتنشيطه بالقيم الراسخة في ثقافة المجتمع. هذا يعني أننا، حتى مع إقحام الإسلام السياسي، لن نخرج عن نطاق السيناريوهات الثلاثة المطروحة.

أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟

على الرغم من صعوبة التنبؤ بالمستقبل، إلا أن هناك احتمالات محدودة قد تشكل مصيرنا. قد تتعايش في الفضاء العربي - بغض النظر عن الحدود الجغرافية - مناطق يحكمها الاستبداد، ومناطق أخرى تسودها الفوضى المدمرة. قد نرى أيضًا مزيجًا من الفوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو حتى مناطق فوضى فظيعة تجاور مناطق فوضى أشد هولًا.

علمنا التاريخ أن المستقبل نادرًا ما يأتي على النحو الذي نأمله أو نخشاه، وغالبًا ما يحمل لنا مفاجآت لم نكن نتوقعها.

ولكن الثابت الذي لا جدال فيه هو أنه لا يوجد شيء مُقدر أو مكتوب سلفًا. فانتصار الديمقراطية ليس حتميًا أكثر من انتصار الشيوعية، كما كان يعتقد الماركسيون في القرن العشرين. وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يمنع هذا الانتصار.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا يجب أن نتشبث بالخيار الديمقراطي رغم الأزمات التي يعاني منها عالمنا المعاصر؟ وما هي الشروط اللازمة لترسيخه كثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟

في البداية، يجب علينا التأكد من وجود تصور جامع للديمقراطيين العرب. فكيف يمكننا النضال من أجل شيء غامض أو غير متفق على أبجدياته؟

لتحقيق فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا هامًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بمشاركة ما يزيد على مئة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين من مختلف الأجيال. ناقش المشاركون ورقة تحضيرية أعدتها قيادة المجلس، وتوصلوا بعد ثلاثة أيام إلى اتفاق على تصور موحد، تم تضمينه في وثيقة حملت اسم "العهد الديمقراطي العربي" (المنشورة على موقع المجلس).

تُعتبر هذه الوثيقة بمثابة حجر الزاوية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة طريق لنضالات الأجيال القادمة. وتنطلق الوثيقة بالعودة إلى السؤال الجوهري: لماذا الإصرار على الديمقراطية، وهي اليوم أشبه باليتيم على مأدبة اللئام؟

يرى أغلب الناس أن الديمقراطية تختزل في الحريات الفردية والعامة، والقضاء المستقل، والانتخابات الحرة والنزيهة. ولكن هذه كلها وسائل وآليات للديمقراطية، وليست جوهرها وهدفها الأسمى.

أفضل طريقة لفهم هدف الديمقراطية هو تصور غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الأنظمة الدكتاتورية، وعلى رأسها النظام السوري الأسدي.

الظاهرة الأساسية التي تميز أي مجتمع يعاني من ويلات هذا النظام هي الخوف المتبادل بين المجتمع والدولة.

إنه خوف المحكومين من الجدران التي لها آذان، ومن زوار الفجر، ومن مراكز الشرطة، ومن غرف التعذيب، ومن السجون والمنافي.

وفي المقابل، يخاف الحكام من المؤامرات الصامتة، ومن الثورات الصاخبة، ومن انكشاف فضائحهم وجرائمهم. وربما يكون الخوف الأكبر هو اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، بل مجرد أشخاص عاديين، وأحيانًا أقل من العاديين.

هذا الخوف العام هو التجسيد الأبرز للحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع، والتي تتخذ أشكالًا مختلفة، مثل الانقلابات والثورات.

أما السبب الجذري لهذا الخوف، فهو مصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، للثروة والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال، والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظل الخوف والمذلة.

لهذا يؤكد العهد الديمقراطي:

"الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".

تتجلى عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في السلطة، وحتى على قيد الحياة.

كما أنها تحرر المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.

لا يتحقق ذلك بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة بشكل فوري، حيث لا يمكن لأحد بين عشية وضحاها أن يوزع الثروة والسلطة والاعتبار بشكل عادل، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.

هكذا تنظم آليات الديمقراطية الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية، حيث يكون السلاح هو الكلمات لا اللكمات. وتأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة فاصلة بين المتنازعين، يتم فيها إعلان المنتصر الذي تمكن من حشد أكبر عدد ممكن من الجنود في ساحة المعركة.

وبعد إعلان الفوز، يتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. ولا يبقى أمام المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا، لأن اللعب مفتوح، وهناك دائمًا أمل في الانتصار في المعركة السلمية المقبلة.

نحن العرب أحوج ما نكون إلى مثل هذا النظام، لكي نضع حدًا للصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، وحتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قمعية ومجتمع مقموع، لا يتحقق فيها أي انتصار إلا بثمن باهظ للجميع؟

قد يقول قائل: بهذا المفهوم، فإن كل المجتمعات بحاجة إلى نسيم الديمقراطية، تمامًا كما تحتاج إلى الهواء النقي والغذاء الكافي. فلماذا نضيف كلمة "العربي" لوصف العهد؟ هل هو للتعريف الجغرافي، أم لإفراغ المصطلح من محتواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟

الجواب هو لا هذا ولا ذاك. نحن العرب بحاجة إلى الديمقراطية ككل الشعوب، ولكن لنا فيها، بحكم وضعنا المأساوي، أربعة أهداف أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.

لماذا ديمقراطية اجتماعية؟

كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الناشئة هو السخرية من الحريات التي لا تشبع جوعًا، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ولكن النتيجة، كما شهدنا على مدى سبعين عامًا في أكثر من بلد، هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية.

هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم أن الديمقراطية التي لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية هي مجرد فاصل بين فترتين استبداديتين.

لذلك يؤكد العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية كما تروج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا تحظى بفرصة كبيرة للفوز في معركة العقول والقلوب في منطقتنا.

الأولوية بالنسبة لنا هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".

لماذا ديمقراطية اتحادية؟

إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا ليست مجرد أزمة نظام سياسي، بل هي أزمة الدولة القطرية. فباستثناء أربع دول نفطية، لا تستطيع ثماني عشرة دولة عربية أخرى تلبية الاحتياجات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى لو حكمتها أفضل الأنظمة وأقلها فسادًا.

هذا ما فهمه الوحدويون والقوميون العرب مبكرًا، ولكن ما لم يفهموه هو أن النظم الاستبدادية التي يقدسونها لا تتحد، والدليل على ذلك الصراع بين البعثيين الذين حكموا سوريا والعراق في سبعينيات القرن الماضي.

النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد: "نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.

لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، وعاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.

هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحده على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".

لماذا ديمقراطية سيادية؟

المستبدون في العالم العربي هم مجرد أتباع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران أو روسيا وإسرائيل.

إذن، الديمقراطية ليست الضمان الأكبر لتمتعنا بالحريات الفردية والجماعية فحسب، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار فارغ من كل مضمون.

لهذا يؤكد العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية ليس فقط وسيلة للتحرر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأولى التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".

لماذا ديمقراطية مواطنية؟

لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع هي في الوقت نفسه حق وواجب.

أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون، فلا فضل لرجل على امرأة، ولا لغني على فقير، ولا لطائفة على طائفة... إلخ، في التمتع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وعلى رأسها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فهو ضرورة اضطلاع تلقائي حر لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.

هكذا يمكن أن نعرف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، ولا يتخلون عن أي منها مهما سلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.

مجمل القول:

أن تكون اليوم مواطنًا يعني أن تكون وريثًا عنيدًا لحلم الحقوقيين بمجتمع يتمتع فيه كل أفراده بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، ولا يوجد مدخل لتحقيق ذلك اليوم غير الديمقراطية، كما عرفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون تقدميًا اشتراكيًا يعني أن تكون وريثًا عنيدًا لحلم العدالة الاجتماعية، ولا يوجد مدخل لتحقيق ذلك اليوم غير الديمقراطية، كما عرفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون سياديًا استقلاليًا يعني أن تكون وريثًا عنيدًا لحلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة وغير تابعة وغير "محمية"، ولا يوجد مدخل لتحقيق ذلك اليوم غير الديمقراطية، كما عرفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون عروبيًا وحدويًا يعني أن تكون وريثًا عنيدًا لحلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، ولا يوجد مدخل لتحقيق ذلك اليوم غير الديمقراطية، كما عرفها العهد الديمقراطي العربي.

خلاصة القول: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل مزدهر إلا إذا استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، وشعوب من المواطنين، واتحاد شعوب حرة ودول مستقلة. والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق هذا المشروع العظيم هي: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).

قد يقول قائل: مشروع جميل، ولكن ما هي فرص تحقيقه، خاصة في ظل تراجع الديمقراطية في العالم، واشتعال نيران الشعبوية في كل مكان، وصلابة الأنظمة الاستبدادية التي قد تجد في الثورة التكنولوجية طوق نجاة لها، بما توفره من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟

هذا السؤال يقودنا إلى التحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.

لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بد من وجود قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها، ومناضلين صادقين يكافحون طوال حياتهم لفرضه، وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لرعايته وحمايته.

فأين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تمنح الديمقراطية العربية - كما حددها العهد - بعض الفرص للفوز في سباقها مع الاستبداد المرعب والفوضى المروعة؟

وللحديث بقية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة